خَلدُون المسناوي
الجميع يعرف شفشاون، لاشك.لا أعرف إن كنتم تعرفون أن شفشاون،رقعة تدفع بعض الأوروبيين القدوم لها لتناول الجودة العالية جدا جدا من الحشيش. سياحة الحشيش؟،لما لا!،طَيِب،هل تعرفون أن بعض زوار شفشاون ما أن يضعوا حقائبهم بحُجر الفندق التي يُعْطَونها ببعض الدقائق ، حتّى يهرولون بصحبة شاونيين مدمنين، إلى نواحي المدينة حيث يجِدون حقول زراعة الكيف التي يأخذون منها مايشاؤون من الجودة الرفيعة. يدخنون بعضها هناك في بيوت متهرِّأة، ويرجعون للفنادق أو للمقاهي المنتشرة بداخل المدينة العتيقة "التي يعتبر تعاطي الحشيش وسطها أمرا طبيعيا على الرغم من أن القانون الساري الصلاحية بخصوص تحوز الحشيش يمنع ذلك"،ثم يشرعون في لف سجائرهم المحشوة بالحشيش بتأنٍ وارتياح رافعين في تضاحك أكفهم المطلِقة للدخان إلخ.. الوهج السياحي المتولد من أن المنطقة إضافة لتوفرها على الحشيش الجيد ،تتوفر على جمال طبيعي نادر ،لا يتوفر عليه وزان مثلا المتغلغل بحشيش الطبيسلة و الكيف الممتاز والمتوفر على ثروة طبيعية لا يمكن إنكارها كلياً "وزان تقابل الجمال الطبيعي الذي للشاون أو تفوق على الرغم من أنها لا تجتذِب السياح!" ،بحيث تبقى الشاون مستقدمة للسياح على طول العام بكل فصوله من المدن الداخلية ومن الخارج جراء توهجها الفائق، المتضوع بساحة وطاء الحمام بلا أفول...
ساحة وطاء الحمام البرّاقة المشتعلة بالأنس والحيوية و الحياة، نقطة جاذبة لكل، الأوروبيين و القادمين من القارة الأمريكية و الصين الذين،ما إن يضعوا حقائبهم لتو وصولهم بالفنادق المتعددة الموجودة بالمدينة العتيقة للشاون، ،حتى يتدفقون لها جماعات متلازمي الأكتَاف . الساحة تعرف بقدر كبير ب"منشأة القصبة" ، البناية التاريخية الواقعة بساحة وطاء الحمام التي يعود تشييدها :شطر منها لعلي ابن رشد و شطر آخر للبرتغاليين ،،،لم يكن يوم جمعة ولِذلِكَ أديت في شباك ببوابة القصبة عشرة دراهم للدخول بدل أن ألج بالمجان،عبرت عتبة المدخل ،امتدت قدمي لأول أدراج لمحتها كانت عن يميني بمسافة قليلة ، الجانب من بناية القصبة التي أصعد سلمها الآن يتكون من طابقين كل طابق تندفع له بعد عبورك بابا تقليديا سميكا متقن الحرفة ، تجد غرفه الطينية الجدران والمسقفة بخشب العرعار الممتاز، عبارة عن معرض تعلق في جدرانه صور شجِيّة مؤطرة موقعٌ بتعاليق تاريخية تحتها... توقفت أمام صورة ضخمة، إنها لشخصية مهمة بالمدينة على ما يبدو : المرأة الحرة، امرأة تسمى عائشة كما أدقق النظر الآن مُنحنِيَ الظهر في سطر صغير الأحرف يقع تحت الصورة...إلخ.. كانت كل الحجر التي دخلتها في الطابق العلوي نصف مظلمة تقريبا وتبرز في مركز سقوفها أسرجة جميلة الشكل،كان ضوء النهار لا يجد له منفذا عدا نوافذ مقوسة تمكنك من الإطلال بصدرك و رأسك مرتفقا بذراعيك عصي خشبية غليظة على الساحة من فوق ،ينفذ منها لقرارة الغرف المربعة الكبيرة ..اعتليت بقدميَّ عتبة واطئة و أطللت رافعا رأسي قليلا على الجبال الماردة المحيطة بالشاون ،غيرت قوس النافذة بحيث أطللتُ من نافذة مقوسة أمكنني خلالها مشاهدة المسجد الأعظم ذو الأدراج بصومعته السامقة المنتصبة في رفعة أمام حدقتاي ... هبطت من الطابق العلوي الذي لن أصعد أي طابق علوي غيره. هبطت بحذر بالغ على الدرج لأنني غير متعود عليه إلى فسحة الباب الذي دلفتُ منه، ثم أجلت بصري في كل الجهات ، في لحظة جرت بصري يافطة مكتوب عليها : سجن . نعم إنه سجن قديم ، يعتبر الآن تراثا يزوره السياح ، إلخ. كانت بوابته الخشبية الرفيعة التي تنفث من حولهارائحة شذية منفتحة لنصفها ،إذ كان من الممكن أن يدخلا جسدان اثنان الواحد بجانب الآخر ... لما دخلت لهذا السجن القديم وجدته يتشكل من غرفتان اثنتين ،لهما نفس المساحة تقريبا ، وهما طويلتان، السجن يتوفر على نافذة للتهوية ظلت محفورة بجدار السجن ليومنا هذا.. لو لم تكن مصابيح مشتعلة بقلبه لما كان من الممكن تمييز جوفه و معالمه بالداخل ، الغرفة الأولى تؤدي بك للغرفة التالية ثم الأخيرة ، و التي يبصر أي شخص مضى إلى داخلهما، سلاسل قديمة متبثة بالجدران و في الطرف الآخر لها دوائر حديدية صلبة بحجم معصم اليد في استدارَتِها كانوا يقيدون بها حركة المساجين في الزمن القديم في ركن ما داخل السجن بحيث لا يعود بمستطاع السجين التحرك داخل زنزانة السجن...القصبة تحتوي كذلك على بناية على يسار مدخلها ببضع خطوات يمكن أن تُرى فيها مواد جبسية و أخرى خشبية و صفائح زليج، تهم الصناعة التقليدية الشّاونية..بجانب القصبة أو بالأحرى لصقها ، يوجد "مسرح" تُعرض فيه الأعمال المسرحية أحياناً و هو المسرح الذي قد يعرف حيوية دائبة لأعمال مسرحية موجهة للأطفال "أطفال المخيمات" في فصل الصيف ،،المسرح ينعتونه الناس هنا ب: مسرح القصبة..الصناعة التقليدية بالمدينة الزرقاء تعد من القوائم الأساسية لاقتصاد المدينة ، بحيث تحدث دينامية بيع و شراء في الدكاكين الموجودة بداخل و محيط المدينة العتيقة توفر فرص شغل لجزء من سكان المدينة، الناس يعيشون كذلك بأشياء أخرى بالشاون،الإدارات الخاصة والعمومية ، دكاكين المأكولات ، و الأسواق بشكل عام ...
عندما سأعبر باب القصبة نحو الخارج ، الساعة ستكون تشير للخامسة مساء و أنا متوقف أمام باب الموقف المقابل لصف دكاكين الحي التجاري السويقة،كنت منتوِياً أثناء ها التوجه إلى شلال رأس الماء، فنزلت مسرعا حثَّ الخطى،إلى التحت من خلال التواء غائر نحو البوابة الرئيسية للمدينة العتيقة :"باب راس الما" ، تمشيت يسارا قليلا بجانب نسوة يومأن برؤوس تعلوها طرابيش قشية جبلية يبعن خضرا و فواكها و خرداوات مبعثرة على طاولات قشية خشنة، و انعطفت نحو زقاق : "ابن رشد". قرب صف من الفنادق بهذا الزقاق ارتقيتُ درجا حادّ الارتقاء سيوصلني لشلال "راس الما" ... عشرة دقائق تقريبا من السير بالقدمين في طلعة ابن رشد هذه، حتى بدأت تبدو لي مياه الشلال تتدفق من جانبيّ عبر مجريين ، حينما تدنو من منبع الشلال ، ستجد أدرجا مشقق ومُصدعٌ إسمنتها بالماء "منخورة" تنزل من هذا صوب الأرض المنبسطة "مركز المدينة" .. بقرب مصب شلال راس الما، الشلال الذي تنجرف مياهه بقوة من جوف الجبل المستقرة في سفحه أسفله شفشاون ببهاء بالغ، تتواجد مقاهي و مطاعم لطيفة و مصورين محترفين يصورونك مع ببغاء طيّع مبقع بالألوان يزدهي مُسرحا جناحيه .. في الطريق أثناء صعودك الطريق المكفهرة بين المجريين المنزلين المياه للتحت ،يظهر لك نسوة ينحنين في همة بظهورهم على مياه المجاري، يغسلن ثياب أهلهن. في نهاية السير: بمصب عين راس الما ،تبرق لك صخرات ضخمة مُفزعة مبعثرة من حولك هنا وهناك، و الجبل مارد فوق رأسك .. إلخ...
قدوما من وزان قبل بلوغ مدينة شفشاون ببعض الكلمترات القليلة،لابد أن يتراءى لك من عربتك أو الحافلة، جبل سامق جدا سامق على كل الجبال اللاصقة به ،، الأعلى في الجبال الظاهرة لك، كما يستحيل ألاّ تتنبه لقمة هذا الجبل التي تبدو لك و كأنها مكشوطة مطلقا من الإخضرار المنتشر عليه كله هو، جبل: "الأقرع" هذا الذي تراجع نمو الأشجار والنباتات بعلائه لحد العفاء ... كان سيد في الستينات من عمره ، راقد إلى جانبي في الحافلة، أنفه مميز ، سُحنته سحنةُ ريفي ،لقد صعد إلى الحافلة في محطة وزان و قعد بجواري بعد نزول امرأة متقدمة في السن بنفس المدينة ركبت معي من محطة القامرة ب"رباط الفتح".. إلخ...لحظة تحرك الحافلة من محطة وزان نحو شفشاون ، لاح عبر زجاج الحافلة قطيع هائل من الأكباش يقوده راع ، خطف أبصار ركاب الحافلة الذين اشرأبوا برؤسهم محدقين فيه بهمهمات مبهمة.. كان يفصلنا عن عيد الأضحى بضعة أيام..، تكلم الرجل بصوت دافئ رصين يخالِطُه قليل من الإستنكار : ـــــ هاد العيد غالي بزاف ...يا إلهي وصلت فيه الأضحية إلى 5000 درهم للرأس...
ـــــ قلت ببرود وبعدم اكتراث : لمن يريد فشأنه ذلك. ثم أضفت مائلا نحوه : أما بالنسبة إلي أنا ، فبصراحة ،لا يهمني ذلك. / تقبلت تلك النظرة المنبعثة من وجهه القائلة بتكرار : شاب شاب.. ! ..ثم سألتُه : أنت من هنا . هز رأسه بالنفي. ثم أضاف لتوه : لكنني أعيش أكثر من عشرين عاماً بالشاون. ثم استرسل ماسا صدره بيده : أنا من الحسيمة ،و بنبرة مستفهمة : وأنت ...إلخ... بعد صمت طال لفترة قصيرة،قال الرجل الطاعن في السن وعلامات التفكير منطبعة على تقاسيم وجهه وهو ينقر منخاريه برأس أصبعه : ... في السبعينات أتذكر كنت أجيء في الحافلة من الدار البيضاء إلى الشاون بألف و أربعمائة فرنك أي ما يعادل 14 درهماً في وقتنا هذا كانت النقود تحسب بالفرنك في ذلك الوقت .. ثم استأنف بصوت ينم عن الإعتراف بسِرّ كبير: وأية حافلات كنا نجيء على متنها ، ماذا سأقول لك ، كان عرض الحافلة يضم صفان اثنان من الكراسي، صف فيه ثلاثة مقاعد متلاصقة ثلاثة خلف ثلاثة و الصف الثاني على جنبه من خلال الرواق الفاصل طولا بين الصفين ، فيه مقعدان خلف مقعدان كما ترى اليوم ... صمت لحظة قصيرة ،ثم : "لم يسبق لك أن رأيت ذلك ، قال سائلا إياي". قلت مندهشا وبلا تردد : لا. أدار وجهه لي، ابتسم بألفة، طوى جريدة بيديه بسطها فوق ركبتيه، ثم غفا مرخيا رقبته على ظهر الكرسي ... ،كان عمودٌ صحفي معنون ب: "ممنوع على الرجال" ينبجس من جريدة الرجل تعتليه صورة امرأة مزوقة الوجه ... الصحافة تهتم بشؤون المواطنين و تكشف عن معاناتهم ، اليوم هناك صحفيات يكتبن عمودا لحبيبهن يؤنبنه و لصحفيين يجبنهم ، قلت في نفسي ممتعضاً. رفعتُ بَصرِي، كانت سحب ثقيلة بعيدةٌ ناصعة البياض كالثلج تغمر بشكل لا يصدق ، قمم جبال أمامي في هيبة و ووقار كبيرين. بعد دقائق قليلة، اتخذت الحافلة الملتهبة الممتلئة بالركاب مُنعطفا دائريا عريضا داخل ساحة مُسوَّرة خالية "المحطة" و توقفت. كانت نهاية الرحلة .
شلالات "أوقشور" :
بعد قطع مسافة طويلة على القدمين مبهور الأنفاس بين الأشجار الماردة وسط غابة واسعة، بلغنا شلالا تصدر عنه مياه شديدة الإندفاع ، لقد ظللتُ أسير بجانب واد متدفق بغزارة بالمياه الآتية من موضع الشلال قرابة ساعة زمن حتى لاحت موائد متناثرة على جنبي الوادي الذي تقع إلى جنبه حفر مملوءة بماء نقي يرى فيها زائري و زائرات أوقشور مسبحا يرتمون إليه للسباحة..إلخ... في أوقشور كذلك ،يجلبون السواح الأوروبيون الدراجات الرياضية معهم فوق عرباتهم لغاية الصعود عليها في الجبال المحيطة بالشاون .. كان الإخضرار يتموج في ضوء النهار من حولي بشكل لا أدري كيف حينما كنت أسير بحذائيّ الطويلي الأعناق بين الأشجار في الطريق الحصباء الضيقة. كنت مراراً أتخطى موسعا خطواتي شخصا واحدا أو زوجا أو ثلاثة أشخاص...أوقشور حقيقة تنضم إلى أبرز الأماكن الطبيعية التي يتميز بها المغرب ، بحيث تظل من الوجهات المهمة بالنسبة للسواح من أوروبا و أمريكا التي لابد من زيارتها عند الدخول للمغرب ، كما أيضا تبقى أوقشور وجهة مهمة بالنسبة للسياح الداخليين المغاربة أيضاً...كلما وُجِدتُ في أحضان اخضرار مفرط مكتسح أو ثلوج منتشرة من حولي أو رمال صحراوية تُطوقني على مدى البصر إلاّ،وانبثقت في ذهني فكرة : غرابة هذا الكوكب الأرضي بشكل عميق ومُرعِب!...
من أجمل ما تنطوي عليه مدينة الشاون ، الزقاق الغائرة الملتوية المصبوغة جدرانها بالأزرق الخفيف على ارتفاع مترين، والقطط الأنيسة الراكضة فيها الخاطفة للبصر،والنساء الشونيات ملفوفات في ثوبهن التقليدي يسرن بهذه الزقاق،و تلك الشموع التي تنير في مودة فوق موائد المقاهي الكائنة بساحة وطاء الحمام بعد أن تَعتم الساحة في أسرار الظلام وتَدمس ، نعم تلك الشموع ، إنها ليست شموع عادية ، شموع تضفي سحرا منقطع النظير على ساحة وطاء الحمام و تُصيِّر من ليل الشاون : مملكة الأنس و السهر..مدينة مأنوسة حقّاً،الشاون أَقُول.
مدينة شفشاون الزرقاء بشمال المغرِب المتميزة بفسيفسائها الطبيعي " أوقشور ـ تساقط الثلوج ـ الإخضرار الممعن الحرارة ...إلخ..." ، تجعل من كل زائريها و زائراتها زوارا دائمين بعد قدومهم الأوّل.. الشاون مدينة حقا تبقى عالقة بالذهن بعد مبارحتها ،على أن في الحقيقة كل زائر يفضل الفصل المُحبب له للمجيء لها ، فهناك من يحب الشاون الغارقة في الإخضرار "الربيع" وهناك من يأتي للتسلق و الصيد في جبالها "كلهم أوروبيون!"، غير أن الشاون يبقى الإهتمام بها مسألة مهمة جدا خاصة منطقة أوقشور الرائعة التي تفتقر إلى كل التجهيزات التي تستحقها منطقة طبيعية تضاهيها من حيث الجمال و الجاذبية..إلخ...
الصورة : "خ،م" بمدينة الشاون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق