خَلدون المسناوي
مدينة الصويرة "المشتق إسمها من الصواري" .. مدينة صغيرة المساحة و قليلة الساكنة تقع بين آسفي وأكادير، الأجمل ما يكن .. صيتها منتشرٌ في العالم كله من خلال المهرجان الكوني" مهرجان كناوة" الذي يتدفق إليه من المغرب و من دول أخرى، مرة في العام كثير من الزوار ، على أن مدينة الصويرة عاجة بالسياح على طول العام وإن كان ليس بنفس الحدة المشهودة أيام المهرجان ذاك .. المدينة معروفة بأشياء جذابة شتى : السمك الجيد ، شذا التاريخ : المدينة العتيقة "القصبات" ، الفن : مهرجان كناوة و محلات معارض اللوحات الفنية و زخرفة العرعار والسروج ، السياحة الشاطئية : السباحة، رياضات التزلج فوق الماء، الطبيعة : الجُزُر...إنه لا غرو البتة إن قلنا أن مدينة الصويرة تتوفر على رأسمال تاريخي و فني و بحري و بشري "الشباب" ،،،إلخ... يحتم أن يجعل منها مدينة من المدن المهمة المُنَمِّية للتطور الاقتصادي لبلدنا ... إلخ إلخ ...
ميناء مدينة الصويرة القديم يرجع تأسيسه إلى "محمد ابن عبد الله" ... ميناء تستديره أسوار يرجع تشييدها لمدة زمنية طويلة ، يُدخِل إليه ، باب مقوس تشمخ عن كلا جانبيه قصبتين اثنتين مرتفعتين ، بعد تخطي الباب المقوس تلوح عن يمينك أقواس يتبين لك ،أنها الرافعة "السارية" للقصبة الآتية عن يمين الباب المذكور .. تتوزع في الميناء أشياء كثيرة هنا و هناك ... بواخر الصيد الصغيرة، منتثرة على المياه المتدفقة في انبساط، بوسط المرسى على حواشي"جوانب" الأحجار المشكلة لحواف الميناء.. بواخر أخرى تسطع لك من بعيد قادمة في سكينة للميناء .. الصيادة يجعلون لأقدامهم أوضاعا محكمة بشدة فوق سطح بواخر الصيد أثناء انحنائهم لفكِّهم عقد شباك السمك المُستخرج من أعماق البحار وملأ سطول موضوعة أمامهم به ،آخرون يتسلمونه "السمك" من سطولهم و يملأون به صناديقهم بعد وزنه في الميزان ...إلخ إلخ ... كان لغط كثيف تتداخل فيه ضروب من الأصوات قادم من بواخر الصيد تُغطِّيه صياحات باعة للأسماك "فوق موائد خشبية مربعة" على بعد مسافة ظئيلة منهم "من البواخر"...إلخ .. في جانب من الميناء على الناحية المطلة على الجزيرة المقابلة للسقالة الضامة في نوافذها للمدافع يتواجد مطعمان تقليديان ، الموائد مبسوطة إلى الهواء الطلق و الهواء الساخن يتعالى مِن صحون السمك المشوي للتوّ تحت منظر طيور اللقلاق الناصعة البياض الخافقة بأجنحتها على ارتفاع خفيض من المرسى... عند الباب المقوس المولج للميناء،يستطيل صف من عربات بيع عصير الليمون البارد ،هؤلاء الذين تجدهم طبعا هنا فقط في فصل الصيف ...إلخ إلخ ...
ميناء الصويرة القديم يطل على ثلاثة جزر الأبهى والأسطع ما يكن .. الجزيرة الأولى و هي الأقرب للميناء ، بناها محمد بن عبد الله ، يسميها سكان الصويرة أيضاً "دار السلطان" وهي الجزيرة التي صُوِّرت منها الصويرة ك "بطاقات للبوصطال" في أغلب الصور للصويرة المتواجدة لدى الأكشاك... الجزيرة هذه يمكن بلوغها مشيا على الأقدام عندما يكون البحر في حالة جزر ، عدا ذلك أي في حالة امتددا البحر على اليابسة ، فلا يمكن الوصول إلى الجزيرة هذه عدا بامتطاء مركب خشبي صغير ،شأن إذا كنت تريد بلوغ الجزيرة المصنفة من لدن "اليونسكو" تراثا حضاريا ، الجزيرة الواقع على أرضها مسجد و سجن قديم و طائر غريب نادر إسمه "أفلكاي" يأتي مرة إلى الجزيرة ثم يرحل طيلة العام إلى أمريكا ...إلخ إلخ ... ثم هناك الجزيرة الثالثة ، و هي الكائنة على الساحل بمدخل الصويرة من ناحية آسفي ،المسماة ب: "جرف الحمام" ... على أنه يمكن أن نضيف مما يمكن أن نتكلم عنه فيما يخص الجزر الواقعة على ساحل الصويرة الشامخة، "برج البارود" الذي تصله بعد قطعك لرمال شاطئ الصويرة كلها في اتجاه أقصى البحر .. برج البارود هذا يضم بجواره دارا للسلطان يسميها الناس هنا : "دار السلطان المهدومة"...
بمدينة الصويرة أو تموزيكا "مكان آمن للسفن" .. ، هناك ثلاث "سقالات" .. إثنان بالمدينة العتيقة ،و واحدة تستقر على بعد هذه بحوالي ثلاث كلمترات، بالمدينة الجديدة أو "الديور الجّْدَادْ" كما يسميها الصويريون ..بالمدينة العتيقة هناك سقالة بناها البرتغاليون ينتشر على دكاكينها التحتية حاليا باعة المواد التقليدية من مصنوعات عرعارية إلخ... "الدكاكين التي كانت تعتمد في الماضي السحيق ، كمخزن للأسلحة... و هناك كذلك سقالة الميناء المتكونة من قصبتين اللتان تلجهما بعشرة دراهم ..
السقالة الجديدة :
تستقر السقالة الجديدة ، بجانب زاوية ركراكة التي يتم فيها موسم كل عام ، يسمى هنا بموسم ركوب العروس لركراكة ، بحيث تُركّب عروس بكامل ثياب و حلي العروس فوق الحصان أو "العودة" كما يسميها ركراكة و يتم المرور بها وسط عصبة من الأشخاص متحلقين حولها من قرب محطة الحافلات ، ليتم إدخالها بعدئذ ،من "باب دكالة" إلى زاوية الخضارة ... بجانب هذه السقالة الجديدة يجر بصرك صف طويل من عربات مجرورة ملونة بالأزرق الفاتح .. تذهب من مكانها، ناحية مقر المزرعة قرب طريق "سيدي مكدول" ،العاملين بهذه العربات المجرورة و عاملين كثر في حرف متعددة تجذب دراهم قليلة، يأتون من نواحي الصويرة ، بادية الصويرة "الشياظمة" المستقرين على بعد 40 كلم منها "الصويرة" ..
مدينة " الرياح" كما يحلو للبعض تسميتها ،كذلك يجب القول أنها، تستقطب العديد من السياح الأوروبيين القاصدين لها من أجل الإستمتاع بالتزلج على إيقاع أمواج شاطئها الرائع ، المحتضن في جهة منه بيوتا صغيرة مخصوصة للوازم التزلج "الكيت ـ سورف" ... شاطئ موكادور ، تجتاح سطح مياهه سرعة توافق شروط التزلج ب"الكيت ـ سورف" على شتى أنواعها ... كما يتوفر هناك بعيدا في اتجاه رصيف الطريق، على رمال تشبه رمال الصحراء المتخللة بالعشب تلك التي تجدها في السمارة أو في حواشي الداخلة... إلخ إلخ... المنغمرين في الألعاب المائية "الكيت ـ سورف" بشاطئ الصويرة كلهم بلا استثناء أوروبيين فلا وجود للمغاربة إطلاقا بينهم ... الأوروبيين أيضاً الذين تجدهم يمتطون "الدراجات النارية الرباعية العجلات" ويجرون بها فوق رمال الشاطى المنبسطة المحاذية لتدفق أمواج البحر ... توقفت في مكاني على رمال شاطئ الصويرة الهادئ لبضع ثوانٍ بينما كنت أعدل ياقة تجاكيطتي الجلدية ناظرا لعصبة من السحنات الأوروبية الجميلة المشعة بالحياة أمامي ! و قلت في مسمع مني! مغضنا جبيني بتحسر مُمعن لو كنت أبصرتني : ( المغاربة تُعساء... ولا يمكن أن تعيش معهم إلا تعيساً يا خَلد... لا يفهمون عدا شيئا واحدا سوى المال وعندما يحصلونه ولو بكثرة حتى، لا يرتكبون مثل هذه الأشياء الجميلة "الكيت ـ سورف على سبيل المثال"..)... لاحظ! ... فالمسألة مسألة تصورات لا مسألة مال ،غادر هذه البلاد كلهم كذابون! ، كلنا! كلهم كِلا..! ) ... بعد ذلك ببرهات قليلة وجدتُنِي أشق طريقي بين الأعشاب النابتة في الرمال شبه الصحراوية متجها نحو الطريق ...إلخ إلخ...
سرتُ من جانب "باب دكالة" من جوار موقف حافلات "لِما باص" الملونة بالأزرق .. اخترقت الباب و تقدمت في السير بخطى متفاوتة الإتساع ..المزاج رائق، الطريق مليئة بالمارة ،و الحوانيت على الناحيتين تعرض سلعها على الأنواع ... عدد كبير من الشحاذين الممزقة ثيابهم يجثمون هنا وهناك... كانت الصويرة بأروقتها و منعطفاتها الجميلة قد بدأت تنطبع في كينونتي بعد قضائي فيها بضعة أيام ... اقتعدت مقعدا بمقهى احتسيت فيها قهوة سوداء لبعض الدقائق ثم نهضت و انعطفت لساحة مولاي الحسن ،مررت من جانب،حفيف أغصان شجيرات بعثت السكينة في نفسي والواقية الشمسية لمقهى فرنسا تبدو لي قبالتها ترفرف في نسيم المساء ...تلفت يمينا، فتاتان أمريكيتان فيما أعتقد تسيران بهدوء من جانبي الأيسر ، اقترب من ورائهما شابان مغربيان و شرعا يتلفظان باللغة الإنجليزية صوب الفتاتين : يمكنكما قضاء ليلة لطيفة معنا . و نريد أن نخبركما أننا لا ننسى أثناء حلول الليل الأشياء الجنسية! . تحمست بإسراف أن أسلط بصري بفضول على تعبيرات وجهَيْ الفتاتين اللتين انتشر في سحنتيهما احمرار خفيف بعد أن لاح لي في عينيهما أنهما يصغيان بتركيز للشابين .. .. بعد ثوان قليلة سيتطور المشهد لحد غير متوقع،بحيث سيُستل أحد أولاء الشابين الذي أتذكر وأنا أكتب الآن أنه كان يعتمر طاقية سوداء مطرزة بالأحمر في طرفها ، ورقة صغيرة من جيبه ، وسيقترب متقدما للأمام من إحدى الفتاتين ،لا أنكر في هذه اللحظة أني أحسست بشعور غريب !..بحيث سيوقفهما و يقدم لإحداهما الورقة، قائلا : هذا رقم هاتفي ! ... كنت قد تقدمت في السير عليهما إذ لم يكن ممكنا أن أتوقف للتمكن من استئناف سماعهما، ولكنني من خلال تتبعي لما جرى من البداية ... فهمت أن هذا أسلوب يسلكه بعض الشبان هنا مع السائحات الأجنبيات اللواتي في سنهم لاستقدامهم من أجل العلاقة الحميمية..كانت منهما واحدة جميلة على أن الأخرى لم تكن خلاف ذلك لكنها لم تثرني "حسب ذوقي هذا ليس أكثر"... وجدتني بعد وقت قصير منجرا بين زقاق متعرج يغور كلما تقدمت في السير فيه، سألت رجلا طاعنا في السن مرابطا إلى محله اللامعة واجهته الزجاجية بسلاسل و أقراط ،فضية ... السلام ، ما اسم هذا الزقاق ،أجابني بترحيب : هذا بوطويل ...شكرته ثم استمريت في المشي إلى أن انبثقتُ ل"سقاية" تؤدي من زقاق متسخ الأرض جنبها إلى "الملاح" ...إلخ إلخ ... درت في زقاق متعرجة كثيرة ثم عدتُ أدراجي إلى الفندق ...
حين خرجت من فندق " الماجستيك " الكائن بدرب "العلوج" ،كان بي جوع رهيب. إن الظلام يتدفق الآن من خلال أضواء الحوانيت المشتعلة من حولي وأنا متوقف قرب الفندق، ولم أكن منذ الفطور بالصباح قد تناولت شيئا بعد. خرجت من درب العلوج ، وسرت بين المارة بخطى تابثة نحو ساحة الخيمة. دخلت مطعما كبيرا واقعا بالساحة نفسها . كان في جيبي مائة و خمسة وسبعون درهما بالتمام. لقد عاهدت نفسي في سيري من الفندق إلى المطعم الذي دام بعض الدقائق ،أن أبقي ثمانين درهما مما عندي من مال لاقتناء زجاجة فودكا أو دجين أحتسيها في متأخر الليل و صرف ما تبقى بجيبي وإن اقتضى الأمر كله ، في وجبة شهية أسد بها جوعي. طلبت سلطة و قطع لحم مشوي. و ما زلت أذكر أن المطعم كان خاليا من أي مغربي ، وكنت الوحيد الجالس بمفردي وسط عدد لن يقل عن عشرة أشخاص في قاعة واسعة أكثر من نصف موائدها فارغ . أنهيت تناول السلطة واللحم و كسرات الخبز المحشوة في سلة ،مسحت يداي بورق شفاف موضوع فوق المائدة ..شيء رهيب رهيب ،إنني الآن في هذه اللحظة بِهذا المطعم ،إنما أفكر و أنا أنظر إلى قتامة الظلام فوق مباني منازل مضاءة النوافذ من خلال نافذة بجواري في، مشهد ملاحقة الشابين المغربيين للأجنبيتين ،متسائلا إذا ما كانت تلك الفتاة الأمريكية المحمرة الخدين الباهرة الجمال التي رأيت بدرب العلوج ، اتصلت فعلا بذلك الشاب بدافع رغبة قدومها له ... إلخ إلخ ... انسلخت من تفكيري في ذلك بعد قرابة دقيقة زمن. لبثت ساكنا مرتفقا المائدة لحظات طويلة، إلى أن انتبهت إلى أنني أطلت الجلوس كثيرا .. فهممت للخروج. إلخ إلخ..
مدينة الصويرة المغربية ، مدينة جميلة جدا بكل ما تحتويه من مقومات وفي كافة الإتجاهات .. و سكانها يتميزون بلطف خاص لا يتوانون إبدائه في أي وقت لزوارها المخلصين من كل مناطق العالم .. غير أن السياحة و ما تتوفره المرسى من حيوية اقتصادية يبقيان السند الوحيد ل "العمل" بالنسبة للشباب الذي لا مجازفة إن قلنا أنه يعاني أشد المعاناة مع لقمة العيش في مدينة يلزم على القائمين عليها توسيع مقدراتها الإقتصادية بغرض جلب سواح جدد و كذلك لاستيعاب اليد العاملة من الشباب الصويري الذي صار يدخل يوما بعد يوم في عداد العطالة ...إلخ إلخ ...
الصورة : "خ،م" بساحة مولاي الحسن بجوار ميناء مدينة الصويرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق