خَلدون المسناوي
كانت الشمس متوقفة في جناح من السماء تنفث شعاعها الحار حينما كانت عربة أجرة تنهب الإسفلت أمام بصري متجهة من مكناس إلى مولاي ادريس زرهون ،لا أذكر كم كانت الساعة تُشير بمعصمي بالتدقيق لكني أتذكر أنه كانت قد مرت ساعة أو ساعتين على منتصف النهار ... كانت الحرارة تنفذ بشدة بجوف العربة التي كنت أقتعد مقعدها الأمامي مزدحما فيه مع كهل بشكل يجعلني متدفقا قليلا بخصري الأيسر ناحية محول السرعة... و كان الجميع صامتا ، وبين الحين الآخر كنت أتلفت إلى الكهل المتشح في جلباب أسود لأنه تجتذبني رائحة غريبة ميزتها لكني لم أجد لها مقابلا بالكلمات ... أدار سائق العربة المقود بعد أن خفض سرعة العربة ، ثم أضحى يميل بالعربة بمنعرجات حادة مائلة.. دقائق معدودة من السير ، و بلغنا : مولاي ادريس زرهون.
سأظل لابثا بمولاي ادريس زرهون قرابة نصف ساعة أنتظر قدوم خمسة أشخاص متجهين في اتجاه طريق وليلي الرومانية ، غير أن عدم مجيء شخص وحيد، إلخ... جعلني أمتطي لوحدي عربة أجرة ثانية للتوجه إليها: "وليلي" ... عشرة دقائق من السير في الطريق و وصلت العربة . كانت بحوزتي حقيبة أودعتها الباب الخلفي للعربة. رَكن صاحبها بجانب ساحة قرب وليلي، بشكل جعل العجلتين الأماميتين تبدوان غير مستقيمتين. لما سأنزل و أصفق الباب الخلفي مرتين لإحكامه ، سألج كشكاً يقدم موادا غذائية و سأسأله قنينة ماء ذلك أنني كنت جد ظمآن ..إلخ...
تقدمت من الباب الرئيسي لوليلي الشامخة بحيث كان قد لاح لي شخصان يرابطان على بعد مسافة ظئيلة مني إلى غريفة صغيرة تجانب الباب، تصافحنا بحرارة.. سيتبين لي بعد خوضنا في الكلام قليلا أن أحدهما يعرفني حق المعرفة : أنت تقطن بسلا ... هكذا ابتدرني بالكلام ... إلخ... طلبا مني ترك الحقيبة "التي كنت أحس بها ثقيلة جدا على ذراعي" ،معهم ، قبل التجول في ردهات تجمع وليلي ... أبديتُ ترددي في البداية ،فالحقيبة مملوءة ب:جهاز حاسوب يضم معلومات شخصية مهمة لي و بعض الأشياء... و "المغاربة أكبر لصوص في العالم" فكرة مترسخة في ذهني لا تبارحني في لحظة و الحق يقال !... لكني في آخر الأمر، سأقبل إيداعها لديهم.. كان اليوم يوم جمعة ، بحيث يسمح كما قال لي أحدهما مجانا بالولوج إلى وليلي... تحسسني أحدهما بحركة سريعة من كتفي إلى ركبتي ثم أومأ بيده تلك الإيماءة "الرخوة" التي يومئها الشرطي في الطريق بعد انتهائه من معاينة أوراق العربة ... استدرت على عقبي و غدوت الخطى في ردهة ستؤدي بي إلى أحجار ضخمة منقوشة بنقوش رومانية يعود تاريخها إلى قرون عتيدة.. أبواب تاريخية ،أعمدة أسطوانية عالية،يافطات عريضة ... إلخ... إنني الآن في هذه اللحظات التي أحدق فيها في إحدى السقوف الرومانية القديمة يزحف من جانبي جمع من الأجانب أظن الإيطاليين ، ينظرون رافعين رؤوسهم بحملقة و إعجاب لبناء ات أجدادهم .. نقلت بصري بين الإيطاليين ثم استدرت ناحية بقية البناء ات الرومانية مستطيلا النظر لها و فكرت : أجداد هؤلاء من بنوا هذه الحضارة الساطعة الماجدة ..وَليلي فعلا المغرب الروماني العظيم ...سأتنقل عبر الدهاليز التاريخية المتعددة المشتتة على اتساع مساحة التجمع العمراني "وليلي" ، لمسافة أكثر من ساعة زمن... ثم سأحث الخطى عائدا نحو مخرج وليلي للمغادرة...إلخ إلخ...
وليلي تذكرني بل تذكر العديد ، بل القليل، بقضية أثارت الكل في وقت مضى.. الكلام عن اختفاء قطع أثرية رومانية من منطقة وليلي!، نعم لقد كان أن وقع هذا في الماضي، بحيث كان قد تم في أعقاب ذلك اقتياد سكان دواوير مجاورة لها "وليلي" إلى مخافر الدرك و ضربهم من لدن الدركيين ب : "عصا الفأس" على أقدامهم كما حكا لي ذلك محام حدثه دركي صديقه يشتغل بالمنطقة ذاتها بذلك،إلا أنه سيتبين فيما بعد ، بعد تعميق التحقيق ،أن الأمر تعلق بإيطالي ثري جدا قدم إلى وليلي و اشتم رائحة أجداده في قطعة أثرية ،إذ تفاوض على ترحيلها إلى إحدى قصوره ببلاد الطاليان بمئات الملايين ! ، بحيث تمكن فعلا من استقدامها إلى دهليز من دهاليز قصوره ...إلخ إلخ ...
"وليلي" التراث الحضاري الإنساني المطلة في كبرياء على اتساع شاسع من الجبال المشحونة بوهج هيبتها، واحدة من النقاط التاريخية المضيئة المهمة في العالم، و رمز معبر عن الرومان ببلادنا بشكل ساطع لا يمكن أن يخبو .. إن وليلي منطقة تبين لكل من تجرأ في يوم على بلاد المغرب الأقصى ،أن تاريخ هذا البلد هو تاريخ عظيم ذو طابع متعدد لا يقهر.. إننا نتكلم عن المغرب الزاخر بالتاريخ الذي يرن اسمه في أذن أي بشري فوق هذا الكوكب الأرضي و ليس عن بلد نشأ قبل مائتا عام أو أكثر بقليل ،،،إن المغرب و من داخل "خِبرتنا الكبيرة" بكل أرجائه! نقول : مشكلته في مجتمعه المتأخر فكريا "عقليا"... إنه مجتمع يعيش بالتحديد حالة : فكرة الكذب عن النفس ، "الكذب الذي يحيا" كما يقول أستاذي دوستويفسكي ، و عندما نكون نتواجد في دولة مبنية على الكذب "المغربي هو ليس هو" و كذلك "مملكة الحسد" ، عندما نكون نتواجد في دولة فاسِدة "من أعلى أعاليها لأسفل سافلها" ،يصعب كثيرا أن نتكلم عن الإعتناء الحقيقي بمرافقنا و تجهيزاتنا و تراثنا الإستثنائي فوق هذا الكوكب ..يصعب كثيرا كثيرا كثيرا...بفففف!..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق