خَلدُون المسناوِي
... كنتُ مُسندا رأسي بمِرْفقي الأيسر على نافذة الحافلة المغمورة بنفاذٍ بحرارة صيف كاوية، و كانت الحافلة تسير بسرعة واهنة غير مألوفة ،كان ذلك يُضجر ركاب الحافلة بشكل ملحوظ، فالإستياء يخطف البصر من وجوههم باجتِذاب ،و كذلك، بعضهم يدمدم بعبارات مستنكرة بين فترة زمنية وأخرى.. كانت جباههم مقطبة معروقة و قمصانهم مبللة بالعرق وكذلك بينهم كنت. وكنت أحدق عبر زجاج الحافلة بعيدا على أقصى مدى البصر إلى التلال الرملية الصحراوية خلال سماء مزرقة صافية تتطلع لبصري ثم تنقشع لتلوح أخرى ..كُنتَ تلقانِي بين الوقت والآخر ،أتلفت الناحية الأخرى صوبَ ،دأب محادثات بين ركاب الحافلة ، ثم تجدني أعودُ برأسي لزجاج الحافلة أزيغ ببصري على مدى البصر،هناك بعيدا بعيدا أرى ،خِيام منصوبة بسفوح تلال و،سراب غدائر، ...إلخ إلخ ...
تلاث ساعات و نصف من الطريق و،التمعت تلوح مدينة طانطان من مسافة قريبة .. أدار سائق الحافلة المقود حتى ذروته دالفا بالحافلة داخل المحطة و ركنها في زاوية من زواياها،أطفأ المحرك فتلاشت هدهدته ... وثب الركاب من مقاعدهم نحو باب الحافلة.. نزلت أدراج الحافلة ،كانت الساعة عندئذ قد بلغت الثانية والنصف بعد الظهر ، الشمس منتصبة في منتصف السماء و الهواء جد حار ... التقطت حقيبة السفر من القابض الذي جذبها لي من الباب الجانبي للحافلة و تقدمت خارجا من المحطة .. كنت ما زلت لم أحشو شيئا في بطني منذ الصباح الذي أفقت فيه بمدينة كلميم،دخلت لمطعم يُدلّي موائده على الرصيف و طلبت صحنا من الدجاج ..إلخ إلخ... حواشي المحطة أمامي شنيعة بالأزبال ،أسوارها منهدمة و فوضة جزلة منتشرة في كل أنحاء المحطة تخالطها جلبة كبيرة من الصياحات و أصوات طنين الحافلات ...المحطة أمامي بواجهاتها الأربع تطل من كل نواحيها على محلات للمأكولات ، الحمير تبدو وسيلة أساسية هنا هَا، إذ قد مر أكثر من حمار من جانبي منهكٌ بثقل بالسلع ...مسحت أكفي وفمي بمنشفة على نَظر مرآة المطعم المقشرة و خرجت من المطعم متجها إلى الفندق ... فتحت غرفتي في الفندق ، وضعت حقيبة السفر على السرير، تمططتُ،ثم استمنيت ! ،أرتجت الباب بإحكام بحيث لا يمكن أن أكون قد استغرقت خمس دقائق كاملة داخل الغرفة ذلك أني كنت مستعجلا احتساء فنجان قهوة مع تدخين بعض السجائر .. في مقهى قرب المحطة جلست وطلبت قهوة سوداء ، بعد دقائق قليلة ، دخل شرطي أسمر قصير القامة إلى داخل المقهى كنت قد لمحته مرابطا إلى باب المحطة عند خروجي منها بعيد نزولي من الحافلة، و تقدم نحوي رأسا .. قال بلهجة شبه آمرة : بطاقتك الوطنية . نهضت من الكرسي وقلت في تصميم : حقيبتي في الفندق ،وللتو حشوت يدي في جيبي و أخرجت مفتاح الغرفة وأريته له في عجرفة! ثم تهالكت غير مباليا بأمره.. انصرف دون أن ينبس ببنت شفة .. جاءني النادل : قبل أن يتفوه بشيء قلت : قهوة سوداء ثقيلة. كان النادل الوحيد الذي لحظ ما جرى بيني و بين الشرطي ، قال بنبرة تنم عن التعاطف : مكانه هو المحطة! ، ثم قال و عيناه مثقلة بالإعجاب : راقتني طريقة تكلمك معه ! ... حملت كأس القهوة بيدي ، دفعت ثمنه للنادل،ثُمَّ ذهبت للفندق لاحتساء القهوة لعل ذلك سيكون أأْمن، كذلك كنت قد ارتأيت الأمر حسبما أتذكر ..
في الطريق إلى الفندق حاملا الفنجان بكف و دخان سجارة يتعالى من الكف الآخر أنفثه من فمي بانسيابية متمردة.. مرت فتاة صدرها مقتحم من جانبي نظرت إلي بإمعان وأومأت في إعجاب مثقل على محياها!،فكرت :"انسيابية متمردة " لشاب نحيل بسروال ضيق وقميص مفتوح على الصدر يضع نظارة سوداء معتمرا قبعة ذات حافة على الجبين يحمل كأس قهوة في كف ويعب الدخان من الكف الآخر ،موضوع جمال! ، تخيلتها في برهة أفعى ترقص على طرف عصا بيدي! ...
بعد هبوط الشمس ، وجدتني بشارع محمد الخامس .. شارع محمد الخامس هو الشارع الرئيسي الثاني بمدينة طانطان .. تتناثر محلات البيع و الشراء على جانبيه ،المحلات التي تعرض جميع أصناف السلع ،،سرت على طول هذا الشارع يداي في جيبي و تسربت إلى شوارع : القدس ،الفتح،السلام،20 شتنبر ..، كل هذه الشوارع تشكل القلب الإقتصادي لمدينة طانطان ...
الشارع الرئيسي الأول ،هو شارع الحسن الثاني "الملك الذي يفهم المغاربة عميقاً" نؤكد! "كُل واشرب واسكت تتحرك يا مغربي القمع!" ،إنه لملك كان يفهم حق الفهم المغاربة ،نؤكد!، المغاربة الذي يعرفهم كاتب هذه الأسطر بالمغرب بأسره هِيه!! الإنسان المغربي : الحسود وكثيراً،، الأمي، المتملق، المنافق، التشيزوفريني،الغير العقلاني، المعتلّ نفسيا، الذي لا يفهم عدا شيء واحد هو : "المال" المال المال المال! .. الشارع هذا طويل جدا ، يضم مطاعم ، مقاهي ،مؤسسات خاصّة ...الشارع الذي يُخرج من مدينة طانطان إلى الخارج ... خرجت من،شارع الحسن الثاني إلى شارع المختار السوسي ،ثم انعطفت إلى شارع بئر إنزران ،هذا الشارع الذي تُوزّع على أطراف أرصفته ، الثياب و الآواني و الصنادل الصحراوية ،والذي يحوي كذلك حوانيتا خاصة ببيع الملابس النسائية الصحراوية ،عكس شارع المختار السوسي الذي يمتلأ بالدرجة الأساس بمحلات بيع الأجهزة الإلكترونية ... شارع بئر إنزران المليء بالحيوية، ينتهي بساحة "النافورة" المقابلة للقطب الإجتماعي ، هذه الساحة تتحول نظرا للغياب الكبير القائم على مستوى ملاعب الشباب ، إلى ملعب لكرة القدم ... فرط هي دار الشباب " عين الحمرا " بشارع ابن سينا التي تجدها محتظنة للأنشطة الموجهة للشباب ...إلخ إلخ ... "بارك لافوري" هو المنتجع الهام المتواجد بمدينة طانطان الذي يعتبر مكانا للإستجمام للساكنة ،على أن جميع القاعات السينمائية مغلقة هنا بهذه المدينة .. في الوقت الذي فيه هناك مسرح ، وهو المسرح المديني المتواجد بشارع بئر أنزران ..إلخ إلخ ...
نحن الآن ،في حي "تيغيريا" ، بالتحديد قرب الجبل ،المكتوب عليه شعار المملكة المغربية " الله ـ الوطن ـ الملك " ... دخلت من إحدى الزقاق إلى هذا الحي حاملا على ظهري محفظة تبديني للمارين بجانبي تلميذا ! ، إنه حي يعيش أتعس الأوضاع ، الطرق غير معبدة ، والمنازل تشع منها آثار الفقر المذقع ... الحي يقوم بجانب مقر "المحكمة الإبتدائية" لمدينة طانطان ، عند المدخل المؤدي إلى مدينة السمارة ... أما من الناحية المقابلة لهذا الحي ، فيتواجد حي "الصحراء"... عبرت الطريق من جانب المدارة الفاصلة بين حيي "تيغيريا" و "الصحراء" و أسرعت الخطى قُدماً نحو حي "الصحراء" ... مررت من قرب مستشفى الحسن الثاني الواقع بجوار بنك الدم قبالة مقر التكوين المهني بعد مروري من جانب مقر المجلس العلمي لطانطان... سألت فقالوا لي أنه أكبر مؤسسة صحية بالمدينة... حي الصحراء هو الحي الضام للبرجوازية و للطبقة الوسطى لهذه المدينة...
الحي الإداري ، هو الحي الكائن بمركز مدينة طانطان، بهذا الحي تستقر أبرز شركات النقل ،كذلك حوانيت للكتابة العمومية ،،، بالحي الإداري تتواجد حديقة الغاية في الجمال ، إنها حديقة الحي الإداري .. الكائنة قرب المركب الإجتماعي التربوي لحماية الطفولة التابع للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية المجاور للخزانة الوسائطية اللاصقة بمؤسسة "بريد المغرب للمدينة المركزية"... الحديقة محاطة بسور مصبوغ بطلاء بني فاتح ... وراء هذه الحديقة، أو بالأحرى خلف الحي الإداري،يتواجد ملعب صغير المساحة ، هو الملعب الوحيد الذي يقصده مجموعة من شبان طانطان.. بجانب هذا الملعب العشوائي ،يسيل واد يضخ مياها متسخة ،كذلك هناك ساحة مليئة بالأزبال بالقرب من الواد و الملعب هذان ...إلخ إلخ ... مررت من جنب الوادي المشع لنتانة تُزكم الأنف ، لاح من مسافة قرابة عشر أمتار مني ، شبان يشمون "السلسيون" ،زحفت من جانبهم و صعدت عبر طريق جد موحلة إلى حي "ابن الخليل" المنتصب في العلاء المطل على طانطان من فوق كلها ...الحي الآهل بين أزقته بتربية الماشية! الذي يعيش جزء من سكانه المُعدمين من تربية الماشية هذه ...إلخ إلخ..
مدينة طانطان الصحراوية، التي تتفرع منها طريقان ، واحدة قادمة من السمارة، و أخرى مرتبطة بكلميم ...،مَدينة تحتاج للمزيد من بذل المجهودات من لدن الدولة بغرض تطوير و تحسين بنياتها التحتية.. لابد من الإقرار بأن طانطان تعاني الكثير على صعيد بنياتها التحتية و تجهيزاتها المحلية ،لا سيما على صعيد الطرق و دور الشباب ... إن مدينة طانطان التي جلناها على كل أطرافها، مدينة تتوفر على مؤهلات عمرانية تاريخية ومؤهلات مهرجاناتية و أخرى شاطئية مهمة تجعل منها مدينة مستقطبة للسياح بحدة لولا تقاعس المسؤولين الذين أهملوا هذه المدينة إلى منزلة بلوغها الحضيض ... فلا بد من الإهتمام بهذه المدينة الصحراوية اهتماما تنمويا عميقا يرفع من شأن أمرها ...إلخ إلخ ...
الصورة : "خ،م" متوقف بحديقة "الحي الإداري" بمدينة طانطان المغربية...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق